الأحد، 19 يناير 2014

الإدارة شطارة

قصة قصيرة بقلم الكاتب /عرفان أبوهويشل

أسند المدير ظهره إلى الكرسي الدوار وتمطى بأقصى ما تستطيع طاقة الكرسي .. مدّ رجليه وتثاءب .. نظر ناحية الصورة الكبيرة التي تزين الواجهة .. حول نظره نحو لوحة معلقة مكتوبٍ عليها بلون ذهبي )وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون( .. خلع حذاءه ووضع رجليه على"الموكيت" المخملي .. تذكر أيام صباه، وكيف أنه لبس أول حذاء عندما كان عمره ستة عشر عاماً، ثم سرح به الخيال وتذكر بطاطين "الوكالة"، وكيف كان أهله يصنعون له منها الملابس .. قال لنفسه:
ـ كم كانت خشنة ..
نظر ثانية ناحية الصورة المعلقة ثم نادى على السكرتير ـ كما تعود أن ينادي عليه كل صباح ومساء ـ وسأله نفس السؤال:
ـ هل تحفظ التعليمات جيداً؟
ـ نعم يا سيدي.
ـ "سَمّعِها"
وقف السكرتير كالتلميذ النجيب .. بلع ريقه، واندفع قائلاً:
ـ عندما يطلب أي زائر الإذن بالدخول، أقول له بأن المدير في اجتماع مهم، ثم اتصل بك بالهاتف الداخلي، فإذا طلبت إدخاله، أدخلته، وإلا قلت له إن الاجتماع سيستمر لعدة ساعات، وقد يتواصل للغد، ثم أكشر في وجهه فينصرف ..                                     
تبسم المدير قائلاً:
ـ أحسنت .. هذا أملي فيك، سأطلب من المحاسب أن يسجل لك مائة ساعة عمل إضافي .. المهم أن تحافظ على تطبيق هذه التعليمات بدقة.
انحنى السكرتير منسحباً وقال:
ـ الله يخليك لينا يا "أبي حديد" يا بركة.
*****
قبل أن يغلق السكرتير الباب خلفه، دخل "الفراش" يحمل صينية عليها كوباً من الشاي .. قدمه للمدير بعد أن حياه تحية الصباح ..
قال له المدير، بعد أن ارتشف رشفة من الكوب:
ـ شايك تمام التمام، وأريدك تكون كذلك ..
قال الفراش بينما كان يعبث بملابسه:
ـ خدامك يا سيدي.
ـ دير بالك كويس خلي عيونك أربعة .. راقب جيداً، وعندما تلاحظ أي شيء، ادخل وأخبرني فوراً.
ـ حاضر يا سيدي.
ـ شد حيلك، وفتّح عينك كويس، وسأطلب من المحاسب أن يسجل لك ثلاثين ساعة عمل إضافي.
خرج الفراش وهو يقول:
ـ الله يخليك لينا يا سيدي.
بعد أن أغلق "الفراش" الباب، نظر المدير إلى الصورة المعلقة ثم ناحية التلفزيون المعلق على الحائط أمسك "بالريموت"، وأخذ يتصفح المحطات حتى وقع على  محطة من الممنوعات .. أخذ يتفرج ويده على "الريموت" .. سمع طرقاً خفيفاً على الباب .. غير فوراً إلى المحطة الوطنية .. دخل نائبه الأول وبيده ملف .. ألقى التحية وجلس .. اتصل المدير بالفّراش ليحضر لهما كوبين من الشاي.
قال النائب:
ـ اليوم سوف نبعث بالإعلان عن الوظيفة الجديدة إلى الصحف
ـ وهل كتبت الإعلان؟
ـ نعم وقد فصلته حسب المقاس المطلوب.
ـ "دير بالك لحسن يطلع لينا واحد وقد انطبقت عليه المواصفات غير اللي عليه العين فتحدث مشكلة".
ولا يهمك .. على العموم سأقرأ عليك الإعلان، وإذا كان لديك ملاحظات، يمكن إضافتها.
قال ذلك وأخرج من الملف ورقة وأخذ يقرأ:

* إعلان عن شغل وظيفة محاسب
تعلن الدائرة عن حاجتها لشغل وظيفة محاسب تتوافر فيه الشروط التالية:-
أن يكون من مواليد 1967م.
أن يكون حاصلاً على تقدير "جيد".
أن يكون لديه خبرة لمدة سنتين ونصف.
أن يكون قاطناً في المنطقة "ص".
وضع الورقة على المكتب وقال:
ـ أعتقد بأن هذا الإعلان سوف يكون على مقاس ابن صاحبك بالضبط.
قال المدير ضاحكاً:
ـ "أنت جن ابن عم العفريت"!
أرجع الورقة إلى الملف وهو يقول:
ـ محسوبك جن أحمر .. إعلاناتي "ما بتخر الميه"، وأفصلها على المقاس تماماً كأمهر الخياطين .. المهم أنو صاحبك يزّبط ابنك في البعثة الخارجية.
ارتشف المدير رشفة من كوب الشاي وقال:
ـ وأنا مش أقل منك شطارة .. إذا لم يزبط ابني، لن تتم معاملة ابنه.. الحكاية "حكلي تحكلك"
*****
رن جرس الهاتف في مكتب المدير، وسمع نائبه المحادثة التالية:
ألو مين ؟
ـ أهلاً .. أهلاً عمي "أبو ساهر".
ـ ...........................
ـ أيوه .. أيوه، ابن أخوك .. الله يخليه .. وهو خريج وين ؟
ـ ............................
بتقول مش محاسب .. إذاً إيش تخصصه .. إدارة .. اقتصاد .. إحصاء ..
ـ .............................
ـ بتقول ميكانيكي!! بس إحنا طالبين محاسب.  
ـ .............................
ـ حاضر يا سيدي بندبره .. بس الله يخليك ما تنساناش في الترقيات الجديدة... الله يخليك لينا يا أبو ساهر يا بركة.
*****
بعد نشر الإعلان في الجرائد بيوم واحد، كان "العبد" ابن أم العبد" يحمل ملفه ويطرق باب المدير لتقديم الطلب.
تناول المدير الملف، وأخذ يقلب صفحاته .. كان الملف مستوفياً للشروط، ولكنه قال:
ـ طلبك غير مستوفٍ للشروط لذلك لا يمكن استلامه.
وكيف ذلك؟! لقد قرأت الإعلان جيداً، وأنا متأكد من ....
قال المدير وهو يلقي بالملف جانباً:
ـ أولاً المطلوب في الإعلان تقدير "جيد" وأنت حاصل على تقدير "جيد جداً".
ـ ولكن تقديري أعلى من التقدير المطلوب .. لو كان أقل لكان لاعتراضك معنى .. ولكن ..
قاطعه المدير غاضباً:
ـ لا وقت للنقاش .. التقدير المطلوب "جيد" يعني "جيد" .. لا نريد "جيداً جداً" .. الذنب ذنبك فالإعلان واضح.
تناول العبد ملفه وخرج وهو يتمتم:
ـ فعلاً الإعلان واضح! والنية واضحة, ولا بارك الله فيك.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق