الأربعاء، 22 يناير 2014

محاكمة زرقاء اليمامة
بقلم الكاتب / عرفان أبوهويشل

لم تكن الغيوم في ذلك اليوم كالمألوف .. كانت أقرب إلي الدخان الأسود .. واطئة تسد الشوارع والمنافذ, وكان يتساقط منها ما يشبه الندى, ولكنه أسود كالسخام .. الكثير من أهل المدينة اتجهوا ـ رغم انعدام الرؤية ـ نحو قاعة المحكمة .. لقد كان يوماً مشهوداً, فالكل يريد مشاهدة محاكمة "زرقاء اليمامة" .. كل جند المملكة كانوا في المدينة لحفظ النظام .. وأكثر من نصفهم كان في محيط المحكمة للمحافظة علي الهدوء ..
أعيان القوم أيضاً كانوا في طريقهم إلي المحكمة, فقد قرر الملك حضورها بنفسه .. كانت قاعة المحكمة جاهزة لذلك الحدث الكبير .. علي منصة خلف القضاة كان هناك تمثال نصفي للملك, وفوق التمثال تقاطع سيفان, يخيل للناظر إليهما بأنهما يقطران دماً قاني اللون.. تحت السيفين والتمثال, جلست هيئة المحكمة بقضاتها وكتبتها وحراسها, وفي المقصورة العليا المقابلة جلس الملك والملكة وكبار رجال الدولة, وفي القاعة العامة أسفل المقصورة تجمع الآلاف من المواطنين لشهود المحاكمة ..
في الركن الأيسر .. كان الجنود شاكي السلاح, يحرسون قفصاً حديدياً محكم الإغلاق, وبداخل القفص جلست "زرقاء اليمامة" مكبلة اليدين والرجلين .. كانت تبكي, فسالت دموعها علي وجهها وانحدرت فبللت ملابسها, وعجزت عن مسح هذه الدموع لكونها مكبلة اليدين .. قام كبير القضاة لابساً عباءته الموشاة بالذهب .. تنحنح .. تلعثم .. ثم فتح الله عليه فقال مشيراً إليها:
ـ تقف أمامكم هذه المجرمة, التي كفرت بأنعم مولانا ـ حفظه الله ـ واستمرت في نشر الشائعات والدعايات المغرضة والأكاذيب الباطلة, ضد هذا البلد الآمن, محاولة تعكير حالة الأمن والسلام التي تعيشها مملكتنا المحروسة .. لقد نشرت الشائعات بأن العدو يتقدم لمحاربة مملكتنا الفتية, ناسية تلك المأفونة بأنه لا أحد يجرؤ علي مهاجمة مملكتنا وملكها المغوار. نهضت "زرقاء اليمامة" واقفة وقالت:
ـ صدقوني أيها الناس لقد رأيتهم يتقدمون نحو المدينة ساترين أنفسهم بأغصان الأشجار .. لقد كان السلاح يلمع تحت ثيابهم .. انتفض رئيس القضاة قائلاً:
ـ كاذبة! وهل الجميع عميان إلا أنت ؟!, لقد كذّب جنود الملك المكلفين بمراقبة الحدود هذا الخبر .. وحتى لو كان لإنسان أن يري أكثر من الآخرين, لكان مولانا الملك, لقد أطل من شرفة قصره عدة مرات, ولم ير الأعداء الذين تتكلمين عنهم, مع أن قصره أعلي مكان بالمدينة ..
أيها الناس, لابد وأنها تبث هذه الدعايات المسمومة لصالح المملكة المجاورة التي تناصبنا العداء منذ الأزل .. لقد أغروها بالمال, ولذلك قبلت أن تخون بلدها, وتنشر الرعب في صفوف شعبنا الأمن ..
قال ذلك وجلس يتشاور مع أقرانه القضاة .. نظر الجمهور إليها, ثم إلي السيفين فصمتوا .. في أثناء ذلك كان الملك يتهامس مع الملكة والوزراء ويتضاحكون .. قام كبير القضاة ثانية .. صمت الجميع فتكلم:
ـ عقاباً لهذه المجرمة, التي روعت الشعب, وزعزعت الأمن, فقد قررت المحكمة أن تُسمل عيناها حتى لا تعود لهذه الفعلة النكراء .. واختصاراً للإجراءات, وحفاظاً علي الأمن العام, فقد تقرر أن يتم ذلك في هذه القاعة وفوراً ..
قال ذلك وجلس, فقامت ثلة من رجال الملك .. فتحوا القفص .. شدوا وثاقها .. أوقدوا ناراً, ووضعوا فيها الأسياخ الحديدية.
فجأة صرخت "زرقاء اليمامة":
ـ الحذر .. الحذر.. الأعداء علي أبواب المدينة, إنني أسمع أصواتهم .. دافعوا عن مدينتكم أيها الناس .. ستندمون إن لم تخرجوا للدفاع عن مدينتكم ..

أمرهم كبير القضاة بتكميم فمها .. وبدءوا في تنفيذ أمر المحكمة .. وسمعت صرخة, وانطفأت عين, ومع الصرخة الثانية!! سمع الجميع صوت تحطيم أبواب .. لقد كانت أبواب المحكمة .. نظر الجميع نحو الباب الرئيسي .. كان يندفع منه العشرات من جنود الأعداء شاهرين سلاحهم .. تقدم رئيسهم, وجلس في مكان كبير القضاة .. كانت "زرقاء اليمامة" لا تزال تصرخ .. أمر بقتلها .. ثم جمع القضاة والوزراء وأمر بوضعهم في القفص عند جثة زرقاء اليمامة .. نزل الملك من مقصورته, واتجه نحو زعيم الغزاة .. انحني أمامه يرجوه الرحمة .. قبل الأرض تحت قدميه .. تقدم الغازي وأغمد سيفه في ظهر الملك بينما كان منحنياً.  


الأحد، 19 يناير 2014

الإدارة شطارة

قصة قصيرة بقلم الكاتب /عرفان أبوهويشل

أسند المدير ظهره إلى الكرسي الدوار وتمطى بأقصى ما تستطيع طاقة الكرسي .. مدّ رجليه وتثاءب .. نظر ناحية الصورة الكبيرة التي تزين الواجهة .. حول نظره نحو لوحة معلقة مكتوبٍ عليها بلون ذهبي )وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون( .. خلع حذاءه ووضع رجليه على"الموكيت" المخملي .. تذكر أيام صباه، وكيف أنه لبس أول حذاء عندما كان عمره ستة عشر عاماً، ثم سرح به الخيال وتذكر بطاطين "الوكالة"، وكيف كان أهله يصنعون له منها الملابس .. قال لنفسه:
ـ كم كانت خشنة ..
نظر ثانية ناحية الصورة المعلقة ثم نادى على السكرتير ـ كما تعود أن ينادي عليه كل صباح ومساء ـ وسأله نفس السؤال:
ـ هل تحفظ التعليمات جيداً؟
ـ نعم يا سيدي.
ـ "سَمّعِها"
وقف السكرتير كالتلميذ النجيب .. بلع ريقه، واندفع قائلاً:
ـ عندما يطلب أي زائر الإذن بالدخول، أقول له بأن المدير في اجتماع مهم، ثم اتصل بك بالهاتف الداخلي، فإذا طلبت إدخاله، أدخلته، وإلا قلت له إن الاجتماع سيستمر لعدة ساعات، وقد يتواصل للغد، ثم أكشر في وجهه فينصرف ..                                     
تبسم المدير قائلاً:
ـ أحسنت .. هذا أملي فيك، سأطلب من المحاسب أن يسجل لك مائة ساعة عمل إضافي .. المهم أن تحافظ على تطبيق هذه التعليمات بدقة.
انحنى السكرتير منسحباً وقال:
ـ الله يخليك لينا يا "أبي حديد" يا بركة.
*****
قبل أن يغلق السكرتير الباب خلفه، دخل "الفراش" يحمل صينية عليها كوباً من الشاي .. قدمه للمدير بعد أن حياه تحية الصباح ..
قال له المدير، بعد أن ارتشف رشفة من الكوب:
ـ شايك تمام التمام، وأريدك تكون كذلك ..
قال الفراش بينما كان يعبث بملابسه:
ـ خدامك يا سيدي.
ـ دير بالك كويس خلي عيونك أربعة .. راقب جيداً، وعندما تلاحظ أي شيء، ادخل وأخبرني فوراً.
ـ حاضر يا سيدي.
ـ شد حيلك، وفتّح عينك كويس، وسأطلب من المحاسب أن يسجل لك ثلاثين ساعة عمل إضافي.
خرج الفراش وهو يقول:
ـ الله يخليك لينا يا سيدي.
بعد أن أغلق "الفراش" الباب، نظر المدير إلى الصورة المعلقة ثم ناحية التلفزيون المعلق على الحائط أمسك "بالريموت"، وأخذ يتصفح المحطات حتى وقع على  محطة من الممنوعات .. أخذ يتفرج ويده على "الريموت" .. سمع طرقاً خفيفاً على الباب .. غير فوراً إلى المحطة الوطنية .. دخل نائبه الأول وبيده ملف .. ألقى التحية وجلس .. اتصل المدير بالفّراش ليحضر لهما كوبين من الشاي.
قال النائب:
ـ اليوم سوف نبعث بالإعلان عن الوظيفة الجديدة إلى الصحف
ـ وهل كتبت الإعلان؟
ـ نعم وقد فصلته حسب المقاس المطلوب.
ـ "دير بالك لحسن يطلع لينا واحد وقد انطبقت عليه المواصفات غير اللي عليه العين فتحدث مشكلة".
ولا يهمك .. على العموم سأقرأ عليك الإعلان، وإذا كان لديك ملاحظات، يمكن إضافتها.
قال ذلك وأخرج من الملف ورقة وأخذ يقرأ:

* إعلان عن شغل وظيفة محاسب
تعلن الدائرة عن حاجتها لشغل وظيفة محاسب تتوافر فيه الشروط التالية:-
أن يكون من مواليد 1967م.
أن يكون حاصلاً على تقدير "جيد".
أن يكون لديه خبرة لمدة سنتين ونصف.
أن يكون قاطناً في المنطقة "ص".
وضع الورقة على المكتب وقال:
ـ أعتقد بأن هذا الإعلان سوف يكون على مقاس ابن صاحبك بالضبط.
قال المدير ضاحكاً:
ـ "أنت جن ابن عم العفريت"!
أرجع الورقة إلى الملف وهو يقول:
ـ محسوبك جن أحمر .. إعلاناتي "ما بتخر الميه"، وأفصلها على المقاس تماماً كأمهر الخياطين .. المهم أنو صاحبك يزّبط ابنك في البعثة الخارجية.
ارتشف المدير رشفة من كوب الشاي وقال:
ـ وأنا مش أقل منك شطارة .. إذا لم يزبط ابني، لن تتم معاملة ابنه.. الحكاية "حكلي تحكلك"
*****
رن جرس الهاتف في مكتب المدير، وسمع نائبه المحادثة التالية:
ألو مين ؟
ـ أهلاً .. أهلاً عمي "أبو ساهر".
ـ ...........................
ـ أيوه .. أيوه، ابن أخوك .. الله يخليه .. وهو خريج وين ؟
ـ ............................
بتقول مش محاسب .. إذاً إيش تخصصه .. إدارة .. اقتصاد .. إحصاء ..
ـ .............................
ـ بتقول ميكانيكي!! بس إحنا طالبين محاسب.  
ـ .............................
ـ حاضر يا سيدي بندبره .. بس الله يخليك ما تنساناش في الترقيات الجديدة... الله يخليك لينا يا أبو ساهر يا بركة.
*****
بعد نشر الإعلان في الجرائد بيوم واحد، كان "العبد" ابن أم العبد" يحمل ملفه ويطرق باب المدير لتقديم الطلب.
تناول المدير الملف، وأخذ يقلب صفحاته .. كان الملف مستوفياً للشروط، ولكنه قال:
ـ طلبك غير مستوفٍ للشروط لذلك لا يمكن استلامه.
وكيف ذلك؟! لقد قرأت الإعلان جيداً، وأنا متأكد من ....
قال المدير وهو يلقي بالملف جانباً:
ـ أولاً المطلوب في الإعلان تقدير "جيد" وأنت حاصل على تقدير "جيد جداً".
ـ ولكن تقديري أعلى من التقدير المطلوب .. لو كان أقل لكان لاعتراضك معنى .. ولكن ..
قاطعه المدير غاضباً:
ـ لا وقت للنقاش .. التقدير المطلوب "جيد" يعني "جيد" .. لا نريد "جيداً جداً" .. الذنب ذنبك فالإعلان واضح.
تناول العبد ملفه وخرج وهو يتمتم:
ـ فعلاً الإعلان واضح! والنية واضحة, ولا بارك الله فيك.


الأربعاء، 15 يناير 2014


الخبز والدم

الليل مازال يحبو وئيداً, نظر أبوالعبد لساعته ربما للمرة العشرين بعد المائة .. تقلب في فراشه ثم غطي رأسه .. شعر بضيق .. رفع الغطاء .. حملق في سقف الغرفة وسرح بعيداً في داخل أفكاره التي بدت أمامه ككومة من الأشواك يصعب تفكيكها.
"غداً إضراب"
وغداً امتحان صعب لأبو العبد, وصعوبة هذا الامتحان نابعة من أنه إذا لم يذهب إلي عمله في المصنع في الغد فإن رب العمل اليهودي سوف يطرده من العمل, وإذا ذهب إلي عمله فالناس, كل الناس سيحتقرونه لأنه اخترق الإضراب .. فكر أبو العبد في نفسه قائلاً:
ـ "ولكن يا ناس إذا طُردت من عملي, فمن يعيل أسرتي البالغة أربعة عشر فرداً" ؟
ورد علي نفسه:
ـ "ولكن قضايا الوطن أهم من عائلتك يا أبو العبد, ولو أن كل واحد اهتم بنفسه فقط لما كان هناك وطن"
واضطربت الأفكار في رأس أبو العبد, وتابع النقاش بيته وبين نفسه:
ـ ولكن يا عالم الحكاية طالت وطولت, والجوع كافر كما يقولون, وما أحد بينفع أحد.
ـ الجوع خير من الموت يا أبو العبد .. صحيح .. قد تجوع أنت وأفراد أسرتك ولكن المئات استشهدوا والآلاف جرحوا ومثلهم لا يزالون يقبعون في السجون ولا يعلم بحالهم وحال أسرهم إلا الله.
ـ ولكن هؤلاء, وأولئك يحصلون علي الدعم من الخارج, ويتم الصرف علي عائلاتهم.
ـ الحقيقة ليست كما تسمع, علاوةً علي إن كل الأموال لا تساوي أنّة سجين بعيد عن أطفاله.
ـ ولكن الدنيا لا ترحم, والطلبات لا تنتهي, ورغم أنني منذ سبعة عشر عاماً وأنا أعمل بدون انقطاع فإن حالتي المادية صعبة, فالأفواه كثيرة والمتطلبات أكثر .. المدارس مثلاً, والعلاج والملابس ..
فجأة قطع عليه حبل أفكاره صوت المؤذن يؤذن لصلاة الصبح.
ـ هناك حل!
 قالها أبو العبد فجأة
ـ لماذا لا أذهب إلي العمل عن طريق البيارات, فلا يراني الناس, وأصيد عصفورين بحجر واحد"
 وبسرعة ارتدي ملابسه وخرج حذراً ألا يراه أحد, ودخل بيارة البرتقال متلصصاً متخيلاً أن كل أهل حارته يراقبونه.
فجأة .. من بعيد سمع صوت ضوضاء .. سيارات ثم مطاردة وإطلاق نار .. وقف مكانه مندهشاً لا يستطيع الحراك .. أقبل نحوه أربعة شباب ملثمين يحملون خامساً مصاباً بجراح خطيرة.
المطاردة ما زالت مستمرة, والسيارات والكشافات تتقدم, قرر الأربعة ترك الجريح ليتمكنوا من النجاة بأنفسهم, تركوه تحت شجرة وفروا في اتجاهات مختلفة.
تقدم أبو العبد نحو الجريح, فقد قرر مساعدته وليكن ما يكون .. انحني عليه .. يا للهول أنه ابنه العبد. احتضن ابنه وضمه إلي صدره .. كانت الجراح بليغة والدماء غزيرة, والمطاردة مستمرة والكشافات أضاءت الآن كل المكان.
وعرف الناس .. كل الناس بأن العبد استشهد علي صدر أبيه ذات صباح.    




الثلاثاء، 14 يناير 2014

                                                 دعاء


قصيدة لشاعر بدوي يطلب من ربه سبحانه وتعالى تحقيق رغباته, وكل هذه المطالب هي من مكارم الأخلاق:


أسألك يا رب عشرة مطاليب
                    ما بينهن يا رب تكتب نصيبي
الأولة دارٍ فيهي الظل يندار
                      يتواصفنهي ناشرات السبيب
والثانية مهرة تسبق الخيل بهجار
             ومجوهر في الكف يوم الملايم يصيب
والرابعة يارب طرشة أبكار
                 يوم يجوا الطُراق  يتفاولوا بالحليب
والخامسة حرمةٍ تِكِرِمْ الظيف
                        وتجبر خاطري بولدٍ نجيب
والسابعة عزوةٍ عَ الكون جُسار
                       تعّدل بيهم لو مال حق الطنيب
والثامنة سِتِرْ الولايا من العار
                      في مجلس السُفاه هرجٍ يصيب
والتاسعة حِجِهْ للنبي المختار
                       وأقعد على العتبة وأشاهد حِبيبي
والعاشرة تعتق جسدي من النار
                        وفي جنةْ الفردوس تجعل نصيبي

معاني المفردات:
ناشرات السبيب: الخيول
الهجار: قيد تقيد به الخيول
الطراق: جمع طارق؛ الضيوف
حرمة: زوجة
الكون: القتال
الطنيب: الجار
الهرج: الكلام



الأحد، 12 يناير 2014



الشق ودوره في المجتمع البدوي

الباحث أ. عرفان حمد أبوهويشل


الشق هو مجلس الرجال, ويطلق عيه أيضاً اسم "المقعد". وكل مجموعة بيوت متقاربة يكون لها شقها الخاص ويكون في بيت شيخ العشيرة أو في بيت رجل بارز, وكشرط ضمني يجب أن يكون هذا الرجل قادرا ماديا وذلك لإكرام الضيوف وحيواناتهم, حيث أن ركوبة الضيف يجب إكرامها مثلها مثل الضيف. كما يجب أن تتوفر لصاحب الشق عزوة بحيث يفرضون النظام داخل الشق وخاصة في جلسات القضاء.
ويختصر هذين الشرطين قولهم (مال ورجال) أي أن يكون لديه مال ورجال تحت إمرته.
ويمثل الشق عنصراً أساسياً في حياة المجتمع البدوي حيث يؤدي العديد من الوظائف, بحيث لا يمكن تصور حياة البدو بدونه, ومن أهم هذه الوظائف:

أولا: الدور الترفيهي:
يجتمع الرجال في الشق للسمر وتناول القهوة وهي المشروب الوحيد لدى البدو, حيث أن لشرب القهوة طقوس معينة يحافظ عليها البدوي بدقة, ويجتمع الرجال يوميا في أوقات شرب القهوة وهي:
1ـ بكرج الصبح: ويكون بعد صلاة الفجر
2ـ بكرج الضحى: (بكرج حومة الطير) ويشربه الرجال الذين ليس لديهم أعمال في هذه الفترة من النهار
3ـ بكرج العصر: بعد الغداء والقيلولة
4ـ بكرج التعليلة : بعد صلاة العشاء
ومن الجدير بالذكر أن شرب القهوة في المجتمع البدوي لا يتم إلا في الشق إلا إذا كان الفرد
يسكن منفردا وبعيدا
ومن هذا نرى أن الاجتماع في الشق يغطي اليوم بأكمله تقريبا فلا يذهب الرجال لبيوتهم إلا للنوم فالشق ناد مفتوح بدون رسوم أو مواعيد.
وفي جلسة الشق يتبادل الرجال الطرائف والقصص والحديث وقد يأتي رجل غريب فيحدث الجالسين عن أمور لم يروها ولم يسمعوا عنها من قبل, وبذلك يتسع أفق الجالسين ويطلعون على الأحداث التي تتم خارج القبيلة.
وقد يمر بعض النور المتجولين فيعرضون ألعابهم وألعاب حيواناتهم كالقرود, فيستمتع بها الجالسون.
وفي شهر رمضان يتناول جميع الرجال طعام الإفطار في الشق حيث يحضر كل منهم إفطاره معه.

ثانيا: الدور التثقيفي:
يلتزم البدو في جلسة الشق بعادات وآداب خاصة منها الالتزام بالمجلس وعدم التنقل من مجلس لآخر في الجلسة الواحدة (المقاعد ملازم) وفيه يشهد البدو جلسات القضاء التي تعقد في الشق حيث يستمعون إلى حجج (دعاوي) الطرفين وحكم القاضي ..
وقد يأتي إلى الشق أحد الشعراء بربابته  ويغني قصائد الشعر على الربابة فيطرب السامعين,
والبدوي حاد الذكاء ويمتلك قدرة نادرة على الحفظ السريع فيكفي أن يستمع لقصيدة شعرية أو مقولة لمرة واحدة فقط فيحفظها ثم يرويها للآخرين.
ولا يقتصر الدور التثقيفي على الرجال البالغين بل يتعداه إلى الفتيان حيث يجلسون مع الكبار ويلتزمون بآدابهم ويتشبهون بالكبار. والبدو بفراستهم يعرفون الفتيان النجباء من تصرفاتهم ويتنبئون لهم بمستقبل بارز في مجتمع القبيلة, ولذلك فالبدو يقولون في أمثالهم؛ (المجالس مدارس) حيث يتعلم الصغار من الكبار.

ثالثا: الدور الإعلامي:
في المجتمع البدوي لم يكن هناك مذياع أو تلفاز أو جريدة, لذلك فقد كان الشق هو مصدر الأخبار الوحيد بالنسبة للبدو.
وأما بالنسبة لمصادر هذه الأخبار فهي:
1       ـ الرجال العائدون من أسواق المدن المجاورة حيث ينقلون ما شاهدوه وسمعوه من أخبار
2       ـ الرجال المارون من خارج القبيلة حيث ينقلون الأخبار التي يحملونها من خارج القبيلة مع العلم بأن هذه "الشقوق" كانت تقام في الغالب بجانب الطرق وكان من المعتاد أن ينحرف المسافر عن الطريق ويتجه إلى الشق ويشرب فنجان قهوة ويسمي (فنجان ظهيري) أي أنه يشربه ثم يتابع سيره على ظهر جملة
3       ـ الباعة المتجولون: حيث يقدمون ببضاعتهم من المدن المجاورة
وتنتقل هذه الأخبار من الشق إلى التجمعات الأخرى في الصحراء كالرعيان والنساء. وأما إذا كان هناك خبراً مهماً فإن شيخ العشيرة يقوم بدعوة الرجال للشق لإعلامهم بالخبر

رابعا: الدور العسكري:
إذا قامت الحرب بين قبيلة وأخرى أو بدأت بوادر الصراع, يتحول الشق إلى مجلس عسكري حيث يجتمع فيه قادة القبيلة ورجالها المحاربين ويتم فيه إعداد الخطط العسكرية وتوزيع الأدوار وعقد التحالفات حيث يكون الشق بمثابة المجلس العسكري دائم الانعقاد.

خامسا: الدور القضائي:
يمثل الشق دور مبنى المحكمة حيث تعقد بداخله جلسات القضاء حسب مواعيد متفق عليها مسبقا فيحضر كلا الطرفين في الموعد المحدد, وبما أن جلسة القضاء مفتوحة للجميع فيجوز لكل من يرغب أن يحضر هذه الجلسة, وكلما كانت القضية مهمة كان عدد الحضور أكبر

سادساً: الدور التشاوري:
يمثل الشق مجلساً للشورى في الحالات التي يتطلب الأمر فيها مشاورة أفراد القبيلة في موضوع معين, حيث يجتمع كل الأفراد المعنيين, ويتم تداول الرأي في ديمقراطية مباشرة عز وجودها في أعرق الدول التي تدّعي الديمقراطية

من كل ما سبق ندرك بأن الشق كان يلعب دوراً محورياً في حياة البدو, وما كان للمجتمع البدوي أن يعيش بدونه.


يوم في حياة أسرة بدوية
الباحث أ . عرفان حمد أبوهويشل

تأقلم البدوي مع حياة الصحراء القاسية هو وأسرته وحيواناته واكتفى بأقل القليل من الموارد, بل لقد اقتصرت حياته على الضروريات فقط, وأمام هذا الواقع الصعب اشترك جميع أفراد الأسرة في العمل لتوفير الحد الأدنى للمعيشة.
وسوف نفصل العمل اليومي لأفراد الأسرة حسب النوع والسن

أولاً: الرجال:
يتوجه جميع الذكور البالغين للعمل بعد صلاة الفجر مباشرة وذلك حتى يستفيدوا من طراوة الجو قبل أن تشرق الشمس وتلقي بصهدها على رمال الصحراء. ويسمي البدو عملية الخروج قبل طلوع الشمس للعمل أو السفر "السروه"
ومن الأعمال التي كانوا يقومون بها؛ بذر الأرض وحراثتها ومراقبة الزروع أثناء نموها من تنظيف من الأعشاب والحراسة وحصاد المزروعات ودرسها وتنقيتها وتخزينها ثم نقل وبيع هذه المنتجات في أسواق المدن القريبة كغزة وخان يونس والخليل.
كما أن بعض الرجال كانوا يذهبون إلى مناطق شمال فلسطين للعمل في الزراعة والبناء والتجارة.
أما الرجال الطاعنين في السن والذين لا يستطيعون العمل فإنهم كانوا يقضون يومهم في الشق في الحديث وشرب القهوة.

ثانيا: الأولاد (الفتيان) والبنات:
يخرجون في الصباح مع أغنامهم وإبلهم لرعيها في أماكن الرعي وقد يأخذون معهم القليل من الطعام والماء .. خاصة وأنهم كانوا يرعون في أماكن بعيدة عن العمران كما أنهم كانوا يأكلون بعض الأعشاب البرية الصالحة للأكل.
ويقضي الفتيان نهارهم في الألعاب التي تناسب الذكور كالسباق والمباطحة (المصارعة) والكورة كما أنهم يقومون بصيد الطيور بأفخاخ يشترونها من المدن المجاورة .. وقد يحمل أحدهم شبابته ويقوم بالعزف عليها بقرب أغنامه فيطربها ويطرب السامعين.
وأما البنات فتقضي نهارها مع الأغنام في غزل الصوف وتطريز الثياب والحديث.
ويذهب الرعاة يومياً مع قطعانهم إلى مصادر الماء لإروائها, وقد يكون ذلك مجاناً إذا كان مصدر الماء عاماً, أو مقابل ثمن إذا كانت مصدر المياه ملكاً خاصاً.  
وقرب مغيب الشمس يبدأ الرعيان في العودة إلى البيوت, فيتناولون طعام العشاء ثم يذهبون مبكرين للنوم استعداد ليوم عمل جديد كسابقه, إلا إذا كانت هناك مناسبة سعيدة كالعيد أو الزواج أو الطهور فيذهبون مع الرجال إلى حلبات "الدحية" و"السامر".

ثالثا: النساء:
تقوم النساء بالأعمال البيتية من إعداد الطعام وجمع الحطب وجلب الماء وغزل الصوف ونسجه حيث يصنع منه الشقق (جمع شقة) لصناعة بيت الشعر وكذلك الغفور(جمع غفرة) والوسائد والأخراج  وكذلك زينة النساء كالقراميل ... إلخ.
ومن الجدير بالذكر إن الطعام كان يُعد كل وجبة في حينها حيث تأخذ المرأة الحبوب فتطحنها علي الرحى ثم تقوم بعجنها وخبزها، وفي كل وجبة كان يتكرر ذلك الأمر .. بالإضافة إلى إن المرأة البدوية كانت معرضة لإيقاظها من النوم لإعداد وجبة طعام إضافية إذا حدث وحضر أحد الضيوف فجأة في الليل. ولذلك فإنها قبل أن تنام تجهز المواد اللازمة لذلك مثل الحطب والدقيق والماء. وطبعاً تقوم المرأة بكل هذه الأعمال بجانب مهنتها الأساسية وهي تربية ورعاية أطفالها.

أطفال الأسرة الصغار:
يلعب أطفال الأسرة الصغار بنيناً وبنات حول البيوت, كما يقومون برعاية البهم (صغار الحيوانات) التي لا تستطيع الذهاب إلي المرعي مع أمهاتها .. وتلعب صغار البنات ب "العاجة" (العروس) حيث يقمن بتقليد أمهاتهن في حياتهن اليومية.

من كل ما سبق ندرك أن المجتمع البدوي لم يكن مجتمعا خاملا كما يتوهم البعض. بل كان يموج بالحركة والعمل الشاق في ظروف قاسية لا يستطيع العمل فيها إلا البدو. ولو قارنا حالنا اليوم بحالهم بالأمس لوقفنا إجلالاً وتقديراً لما كانوا يبذلونه من جهد لتوفير سبل معيشتهم البسيطة.                                                                                                          

           

الجمعة، 3 يناير 2014

قصة قصيرة للكاتب / عرفان أبوهويشل

ولم يتم الفصل بينهما

حين يموت الفقير يعلم الناس بموته بسماع صرخة صارخة تطلقها إحدى محارمه أو كلهن، ويوم يموت الغني يعلم الناس بموته عن طريق الجرائد بعد أن يقتسم الورثة تركته.
وأما إذا مات الزعيم، فالأمر يختلف .. يتم التعتيم على الخبر حتى يتم الانتهاء من ترتيب إجراءات الجنازة حتى أدق التفاصيل .. في الغالب لا يتم الإعلان إلا بعد تصفية الخلافات على وراثة الزعيم وقد تتم تصفية الخلافات هذه بتصفية العديد من النفوس تقل أحياناً وتكثر أحياناً أخرى.
مات الزعيم .. أجتمع أقرب المقربين لمؤسسة الزعامة وبدءوا في البحث في أمر وراثته .. تم الأمر بسهولة، خاصة وأن المرحوم كان قد أوصى بمن يخلفه .. بقيت إجراءات الجنازة، تم الاتفاق على كل الأمور .. تم كل ذلك والمرحوم ما يزال يجلس ـ محني الرأس فاغر الفم على ـ الكرسي 
حاولوا رفعه من على الكرسي لتتم إجراءات التغسيل والدفن .. لعجبهم الشديد، كان ملتصقاً بالكرسي .. حاولوا نزعه فلم يستطيعوا .. اعتقدوا بوجود مادة لاصقة تربطه بالكرسي .. دققوا فلم يجدوا أي مادة لاصقة .. دققوا أكثر وجدوا أن أنسجة جسمه ومادة الكرسي تداخلتا بشكل يصعب فصله .. لقد أصبح جسم الرئيس والكرسي شيء واحد. فأطلت المشكلة برأسها .. ما الحل؟ .. كيف نفصل جسم الزعيم عن الكرسي حتى تتم إجراءات الدفن؟
أحضروا طبيبه الخاص .. فحص الجسم الملاصق للكرسي، فحص الجزء من الكرسي الملاصق للجسم .. وجد تشابهاً كبيراً بين أنسجة الجسم ومكونات الكرسي .. لكي يتأكد من الأمر أخذ عينة من جسم الزعيم وعينة من الكرسي وأرسلها للمختبر لفحصها .. لعجبه الشديد وُجد أنهما يتشابهان تشابهاً تاماً في المكونات .. وبناءً على ذلك قرر بأنه لا يمكن فصل الجثمان عن الكرسي إلا بعملية جراحية.
عقد اجتماع لبحث  الأمر .. حضره الطبيب وشرح لهم العملية موضحاً بأنها تتلخص في سلخ جزء رقيق جداً من جسم الزعيم وإبقاؤه ملتصقاً بالكرسي مؤكداً بأن ذلك لن يؤثر في مظهر الجثة ..
اعترض المفتي على ذلك مؤكداً بأن هذا الجزء مهما قل لا يجوز إبقاؤه خارج القبر، بل يجب أن يدفن مثله مثل باقي الجثمان.
احتاروا في أمرهم, وتعالى اللغط محاولين إيجاد مخرجاً لهذه المشكلة .. فلم يجدوا لها حلاً ..
تدخل أحد كبار القوم قائلاً بان الحل يتمثل في سلخ جزء من الكرسي ودفنه مع جثمان الزعيم ..
هنا تدخل الزعيم الجديد ورفض الاقتراح رفضاً باتاً لأنه تشاءم من ذلك ورأى في سلخ الكرسي فأل شر عليه ..
عَلا اللغط مرة ثانية وحار القوم في أمرهم خاصة وأن الوقت لم يعد يعمل في صالحهم فالجثمان بدأ ينتفخ, وانتشرت الروائح الكريهة تغزو المكان ..
تدخل مدير التشريفات معلناً بأنه وجد الحل ! .. نظر الجميع نحوه متسائلين .. قال:
ـ لكي نوفق بين رأي سعادة المفتي ورأي سيادة الزعيم أرى أن ندفن الجثمان مع الكرسي .. فلا الجثمان ينقص شيئاً ولا الكرسي يُمس .. فما رأيكم؟!
كانت الروائح الكريهة تزداد تمدداً في المكان ولذلك فقد رأى الجميع في هذا الحل حلاً لمشكلتهم أنفسهم فوافقوا عليه بالإجماع.
ولكن برزت على السطح مشكلة وهي كيفية إتمام إجراءات مراسيم الجنازة والجثمان ملتصق بالكرسي .. لقد تم الترتيب على أساس أن الجثمان سيسجى على عربة مدفع، أما وهو ملتصق بالكرسي فكيف ستتم مراسيم الجنازة والدفن؟!  
بالإضافة إلى أن الزعيم كان قد جهز لنفسه ضريحاً يليق بمقامه بعد الموت، وأحضر له الرخام والبنائين من إيطاليا، أما الآن ـ وهو ملتصق بالكرسي ـ فلن يستطيعوا دفنه في هذا الضريح إلا بعد تحطيمه وتوسيع المكان ليتسع للكرسي مع الجثة .. مشكلة حقيقية واجهت الجميع زاد في حدتها أن الذباب الأزرق بدأ ينتشر في المكان بطنينه المشئوم .. وكلما انتفخت الجثة أكثر كان عدد الذباب الأزرق يزداد ويغزو الأحياء أيضاً مما أثار الهلع في نفوسهم.
المشكلة إذاً تزداد تعقيداً ولا أمل في الحل .. نظروا جميعاً إلى مدير التشريفات عله يجد للأمر مخرجاً كما وجد لموضوع فصل الكرسي عن الجثة .. فكر المدير .. هدت ذبابة زرقاء على رأسه الأصلع .. تظاهر بعدم الاهتمام .. هدت ذبابة ثانية على أنفه .. قال لهم:
ـ هل تريدون فعلاً إنهاء هذه المشكلة؟
ردوا بصوت واحد وهم يطردون الذباب الأزرق عن أنوفهم :
ـ نعم.
قال لهم متصنعاً الحكمة:
ـ السياسة هي فن الممكن .. والممكن الآن هو أن ندفن الزعيم في حفرة تتسع له وللكرسي في أحد جوانب المقبرة .. ونعلن للناس بأن ذلك تم بناءً على وصية الزعيم .. كان الذباب الأزرق هو المجيب، فأجابوا جميعاً:
ـ خيراً اقترحت يا سعادة المدير.
وفعلاً تم دفن الزعيم بليل، ولكنهم لم يستطيعوا أن يدفنوا معه الذباب الأزرق، فظل منتشراً في أرجاء المكان.