السبت، 19 ديسمبر 2015

مخاض الخروج من الوادي

(للكاتب/ عرفان حمد أبوهويشل)

آخر صخرة .. تشبث بها وصعد إلي القمة .. كان الصعود قد استنفذ كل قواه .. جلس علي القمة يعب الهواء عباً .. كان هواء مختلفاً .. لم يكن هواءً بل كان عبقاً لروائح كل الأزهار .. كلما استنشق كمية أكبر كلما ازداد خدراً .. كان كالجنين عندما يخترق حاجز المخاض .. لكنه لم يستهل صارخاً .. بل بسمة غطت وجهه وروحه .. كم قاسي حتى وصل إلي هذا المكان, وكانت الجائزة الكبرى عبق الأزهار يملأ صدره والخدر يملأ رأسه.
بعدما عب ما شاء الله له أن يرتوي .. اعتدل في جلسته ونظر إلي الأسفل .. رأى الوادي فانقبض صدره وزال الخدر .. دقق النظر .. كان الناس يسيرون في الوادي كالأقزام .. تذكر كُهان الوادي وكم طاف حول أصنامهم .. كم هتف بحياتهم .. كم مات من أجلهم .. كاهن يخلفه كاهن وهو مع الآخرين يطوف حولهم .. حفظ تفاصيل الوادي شبراً شبراً, فلم يكن يعرف من الدنيا سواه .. حفظ مقولات الكاهن عن ظهر قلب, فهو لم يسمع غيرها, كم أكل هو والآخرون من فتات مائدة الكاهن .. كان الكاهن يطوف وهم يطوفون حوله, سئم الطواف ولكن الكاهن لم يسئم, وظلت الرحى تدور يسمع هديرها من يسمع ويموت تحتها من ترميه المقادير .. كم مرة طحنته الرحى فتشظى أشلاءً .. ولكنه كان يلم أشلاءه وينهض .. أخيرا قرر الخروج من الوادي, وكان قرارٌ صعبٌ وغير مسبوق.
نظر إلى الأسفل مرة ثانية .. لعجبه كانت هناك وديان أخرى كثيرة في الأسفل, كان لا يعرف عنها شيئا قبل ذلك, شكلها العام لا يختلف عن واديه .. وكان الناس فيها يطوفون كالأقزام .. سأل نفسه:
ـ هل في الوديان الأخرى كهنة آخرون؟
دقق النظر, كان الأقزام يطوفون في كل وادي حول رجل طويل .. تذكر كاهن واديه .. تأكد بأنه لكل وادٍ كاهن .. تذكر بمرارة تعاليم الكاهن؛ لا تلتفت .. لا تسأل .. لا تناقش.. لا تعترض .. وإياك إياك والخروج من الوادي فتلك جريمة كبرى قد يكون جزاؤها الموت شنقا أو علي الخازوق.
حفظ تعاليم الكاهن كلمة كلمة وحرفاً حرفاً .. تشربها .. كان يفكر من خلال الكاهن ويتكلم بلسان الكاهن, لقد أحب الكاهن حباً جماً ملك عليه شغاف قلبه, ولكنه بالتدريج بدأ يكتشف بأن الكاهن كان يخدعهم؛ فقد كان لا يطبق التعاليم التي يلقيها إلي مريديه .. كان يقول شيئا ويتصرف بنحو مخالف .. ولكن المريدين في طوافهم المحموم حوله لم يكونوا ينتبهون لذلك التناقض .. أما هو فقد فتح الله عليه وبدأ ينظر إلي الكاهن نظرة مختلفة, بدأ يقارن بين ما يقوله لمريديه وبين ما يفعله في حياته الخاصة .. وجد فارقاً كبيراً وتناقضاً فاضحاً .. اتضحت الفكرة تماماً .. لقد كان الكاهن يخدع مريديه.

قرر ترك الوادي والصعود نحو القمة. كانت رحلة الصعود شاقة .. فلم يكن من السهل الانطلاق من جاذبية الوادي .. كان المخاض عسيراً ثم كانت الولادة .. واستنشق الهواء في القمة .. واستهل مبتسماً .. نظر للأسفل كانت كل الوديان تحته والناس فيها أقزاما يطوفون حول كهنتهم .. شعر بالتفوق وكان عبق أزهار الدنيا يملأ صدره.

الخميس، 10 ديسمبر 2015

الخميس، 9 يوليو 2015

تعليق الكاتب حماد صبح على كتاب الأمثال

دنيا الوطن ـــ ثقافة
تاريخ النشر : 2015-06-16
ثقافة / موسوعة التراث الشعبي البدوي بقلم : حماد صبح
صدر في العام الماضي الجزء الأول من " موسوعة التراث الشعبي البدوي " لعرفان أبو هويشل ، وخصه ب " الأمثال والأقوال السائرة لبدو النقب وسيناء " وما فيها من معانٍ ودلالات جلاها بشرح لكل مثل . ويبين الباحث في مقدمة الموسوعة سبب انصرافه لتأليفها ، ويقول إنه قلة ما كتب في هذا الميدان ، وغربة الذين كتبوا هذا القليل عن البدو لغة وثقافا واجتماعا الأمر الذي أوقعهم في أغاليط تبدو أحيانا مضحكة . ولا ريب في أن ثمة أسبابا أخرى لهذا الانصراف الدؤوب لتصنيف هذه الموسوعة ، ومنها كون الباحث بدويا يعتز بتراثه ، ويعنيه عناية كبيرة أن يحفظه من سطوة الإهمال والنسيان المدمرة ، ومنها أيضا أن الموسوعة جزء من موجة فلسطينية كبيرة تحركت تالية لحرب 1967 ، واستهدفت توكيد الهوية الفلسطينية من خلال عمق التراث في مواجهة آلة التجريف والتشويه الصهيونية لمقومات ومعالم تلك الهوية . وظهرت ضمن تلك الموجة منذئذ كتب كثيرة في هذا الميدان منها تمثيلا لا حصرا ما كتبه الباحث نمر سرحان ، ومنها " معجم الأمثال الفلسطينية " الضخم لحسين لوباني ، وكتاب " الأغاني الشعبية الفلسطينية في قطاع غزة " لخالد جمعة وجميل العبادسة ، وسواها من الكتب . واهتم المنهاج الدراسي الفلسطيني الجديد الموحد بين الضفة وغزة بالتراث الفلسطيني الشعبي في مختلف المراحل الدراسية . ويبدو الباحث عرفان في الجزء الأول من موسوعته حريصا أوسع الحرص على تيسير الاستفادة للقارىء من هذه الموسوعة التي نأمل أن يعينه الله _ تعالى _ على طباعة أجزائها الأربعة الباقية التي يتناول فيها الفروع الأخرى من التراث الشعبي البدوي مثل الحكايات والأغاني كما فهمت منه في لقاء جمعنا معا منذ شهور . وتبين آيات حرصه على استفادة القارىء من الموسوعة في تجليات كثيرة . قسم الجزء الأول تسعة أقسام وفق الموضوعات مبتدئا ب " أمثال الحكمة والديانة ومكارم الأخلاق " ومختتما ب " أمثال عامة " . ويستهل أمثال كل قسم بتوضيح الظروف المتنوعة التي استنبتت تلك الأمثال دون سواها . ويضع في ختام هذا الجزء تحليلا لمفردات البيئة البدوية الواردة في الأمثال من أسماء لحيوانات وطيور برية وأهلية وزواحف وحشرات ونباتات ومهن ، وغير ذلك من الأسماء والألفاظ . ويشرح كل مثل شرحا يبين فيه معنى ما قد يصعب على القارىء فهمه من كلمات ، ويتبع هذا الشرح الجزئي بشرح كلي للمثل وما يقال فيه من أحوال . وشرحه دقيق مصيب . وعمد في المقدمة إلى بيان بعض خصائص اللهجة البدوية الصوتية مثل تسكين أواخر الكلمات ، وحذف حرف أو أكثر من الكلمة ، وحذف الهمزة في آخر بعض الكلمات ، وغير ذلك من الظواهر الصوتية في اللهجة البدوية . ومعروف في علم الأصوات أن كل هذه الظواهر تستهدف التخفيف والتسهيل على الناطقين للهجة ، وكلها موجودة في اللغة الفصيحة ، الأمر الذي يؤكد القرابة بين اللهجة واللغة الفصيحة ؛ خاصة اللهجة البدوية لبعدها عن التلوث اللغوي الذي يصيب عادة لهجة أهل المدن للتنوع البشري فيها وتعرضها لتيارات لغوية وثقافية أجنبية ، وهو ما لا يوجد في البادية . ويستشهد الباحث على القرابة بين اللهجة واللغة الفصيحة بقول محمود تيمور :" أم الفوارق بين العامية والفصحى ظاهرة الإعراب " . أنفق الباحث عرفان 15 عاما في تصنيف هذه الموسوعة ، وهي ليس بالزمن القليل ، وحصر مجال بحثه في دائرة ضيقة ، ومن شأن هذا الحصر أن يقلل غلة الحصاد ، ولكنه بجلد الباحث الحق ، وإخلاص الفلسطيني الغيور على تراث شريحة من مجتمعه ؛ تمكن من جمع مادة غزيرة وفيرة مقربة إلى عقل وقلب كل قارىء مهما كان تواضع مستواه المعرفي ، وأكد في البحث الذي اختار النقب الفلسطيني وسيناء المصرية مجالا له التقارب بين أبناء الشعبين في أخص خصائص البشر : اللغة والثقافة والروح والقيم ، ولا نتحدث عن رابطة الدم والنسب بين سكان المنطقتين . " موسوعة التراث الشعبي البدوي " منجز ثقافي معرفي وطني كبير ، وحبذا لو تعين جهة وطنية فلسطينية الباحث عرفان على طباعة ونشر الأجزاء الأربعة الباقية . كفاه ما عاناه في تأليفها .