محاكمة
زرقاء اليمامة
بقلم الكاتب / عرفان أبوهويشل
لم
تكن الغيوم في ذلك اليوم كالمألوف .. كانت أقرب إلي الدخان الأسود .. واطئة تسد
الشوارع والمنافذ, وكان يتساقط منها ما يشبه الندى, ولكنه أسود كالسخام .. الكثير
من أهل المدينة اتجهوا ـ رغم انعدام الرؤية ـ نحو قاعة المحكمة .. لقد كان يوماً
مشهوداً, فالكل يريد مشاهدة محاكمة "زرقاء اليمامة" .. كل جند المملكة
كانوا في المدينة لحفظ النظام .. وأكثر من نصفهم كان في محيط المحكمة للمحافظة علي
الهدوء ..
أعيان
القوم أيضاً كانوا في طريقهم إلي المحكمة, فقد قرر الملك حضورها بنفسه .. كانت
قاعة المحكمة جاهزة لذلك الحدث الكبير .. علي منصة خلف القضاة كان هناك تمثال نصفي
للملك, وفوق التمثال تقاطع سيفان, يخيل للناظر إليهما بأنهما يقطران دماً قاني
اللون.. تحت السيفين والتمثال, جلست هيئة المحكمة بقضاتها وكتبتها وحراسها, وفي
المقصورة العليا المقابلة جلس الملك والملكة وكبار رجال الدولة, وفي القاعة العامة
أسفل المقصورة تجمع الآلاف من المواطنين لشهود المحاكمة ..
في
الركن الأيسر .. كان الجنود شاكي السلاح, يحرسون قفصاً حديدياً محكم الإغلاق, وبداخل
القفص جلست "زرقاء اليمامة" مكبلة اليدين والرجلين .. كانت تبكي, فسالت
دموعها علي وجهها وانحدرت فبللت ملابسها, وعجزت عن مسح هذه الدموع لكونها مكبلة
اليدين .. قام كبير القضاة لابساً عباءته الموشاة بالذهب .. تنحنح .. تلعثم .. ثم
فتح الله عليه فقال مشيراً إليها:
ـ
تقف أمامكم هذه المجرمة, التي كفرت بأنعم مولانا ـ حفظه الله ـ واستمرت في نشر
الشائعات والدعايات المغرضة والأكاذيب الباطلة, ضد هذا البلد الآمن, محاولة تعكير
حالة الأمن والسلام التي تعيشها مملكتنا المحروسة .. لقد نشرت الشائعات بأن العدو
يتقدم لمحاربة مملكتنا الفتية, ناسية تلك المأفونة بأنه لا أحد يجرؤ علي مهاجمة
مملكتنا وملكها المغوار. نهضت "زرقاء اليمامة" واقفة وقالت:
ـ
صدقوني أيها الناس لقد رأيتهم يتقدمون نحو المدينة ساترين أنفسهم بأغصان الأشجار ..
لقد كان السلاح يلمع تحت ثيابهم .. انتفض رئيس القضاة قائلاً:
ـ
كاذبة! وهل الجميع عميان إلا أنت ؟!, لقد كذّب جنود الملك المكلفين بمراقبة الحدود
هذا الخبر .. وحتى لو كان لإنسان أن يري أكثر من الآخرين, لكان مولانا الملك, لقد
أطل من شرفة قصره عدة مرات, ولم ير الأعداء الذين تتكلمين عنهم, مع أن قصره أعلي
مكان بالمدينة ..
أيها
الناس, لابد وأنها تبث هذه الدعايات المسمومة لصالح المملكة المجاورة التي تناصبنا
العداء منذ الأزل .. لقد أغروها بالمال, ولذلك قبلت أن تخون بلدها, وتنشر الرعب في
صفوف شعبنا الأمن ..
قال
ذلك وجلس يتشاور مع أقرانه القضاة .. نظر الجمهور إليها, ثم إلي السيفين فصمتوا ..
في أثناء ذلك كان الملك يتهامس مع الملكة والوزراء ويتضاحكون .. قام كبير القضاة
ثانية .. صمت الجميع فتكلم:
ـ
عقاباً لهذه المجرمة, التي روعت الشعب, وزعزعت الأمن, فقد قررت المحكمة أن تُسمل
عيناها حتى لا تعود لهذه الفعلة النكراء .. واختصاراً للإجراءات, وحفاظاً علي
الأمن العام, فقد تقرر أن يتم ذلك في هذه القاعة وفوراً ..
قال
ذلك وجلس, فقامت ثلة من رجال الملك .. فتحوا القفص .. شدوا وثاقها .. أوقدوا ناراً,
ووضعوا فيها الأسياخ الحديدية.
فجأة
صرخت "زرقاء اليمامة":
ـ
الحذر .. الحذر.. الأعداء علي أبواب المدينة, إنني أسمع أصواتهم .. دافعوا عن
مدينتكم أيها الناس .. ستندمون إن لم تخرجوا للدفاع عن مدينتكم ..
أمرهم
كبير القضاة بتكميم فمها .. وبدءوا في تنفيذ أمر المحكمة .. وسمعت صرخة, وانطفأت
عين, ومع الصرخة الثانية!! سمع الجميع صوت تحطيم أبواب .. لقد كانت أبواب المحكمة ..
نظر الجميع نحو الباب الرئيسي .. كان يندفع منه العشرات من جنود الأعداء شاهرين
سلاحهم .. تقدم رئيسهم, وجلس في مكان كبير القضاة .. كانت "زرقاء
اليمامة" لا تزال تصرخ .. أمر بقتلها .. ثم جمع القضاة والوزراء وأمر بوضعهم
في القفص عند جثة زرقاء اليمامة .. نزل الملك من مقصورته, واتجه نحو زعيم الغزاة ..
انحني أمامه يرجوه الرحمة .. قبل الأرض تحت قدميه .. تقدم الغازي وأغمد سيفه في
ظهر الملك بينما كان منحنياً.