الأحد، 6 أبريل 2014

الأمثال والأقوال السائرة لبدو النقب وسيناء

  معاني ودلالات

للباحث عرفان أبو هويشل

   عرض وتعليق بقلم : م . غسان محمود الوحيدي 

ما زال تراثنا الشعبي همم يستحث الباحثين المخلصين للكتابة عنه والتنقيب في مجالاته المتنوعة , حفظاً له من الضياع أو تفسيراً له وتقريباً للمعنى من فهم الناس في زمن سيطرت العجمة فيه على كثير منهم , وكل جهد يبذل في هذا الباب هو جهد مشكور وعمل مبارك.

وإن كان هناك من الباحثين من سبق له الكتابة في هذا  في هذا المجال، نذكر منهم الباحث القدير عبد الكريم الحشاش الذي وضع عدة دراسات في الأدب الشعبي البدوي، لاسيما كتابه " الأسرة في المثل الشعبي الفلسطيني " . 

وإن كانت دراسات البعض يعتريها التداخل في مجالات التراث متناسين المساحة البدوية في مجموع تلك الأمثال، أو مهملين التمييز بين المناطق الفلسطينية وخصوصياتها.

فقد أجاد الباحث الأستاذ سليم المبيض في كتابه " الجغرافية الفلكلورية "  حيث اشتمل الكتاب على رؤية الباحث في ضرورة مراعاة الجغرافية في الفلكلور أو فلكلور الجغرافية ، لأن الفلكلور الشعبي يختلف في البادية عنه في  القرية أو المدينة , ذلك أن لكل منطقة خصائصها وخصوصياتها التي لا تخفى .

وحتى لا يتبادر لذهن البعض في التقليل من شأن هذه الدراسات وما تحمله في طياتها من مطاعن لتراثنا الفصيح، نؤكد على أن لتراثنا العربي الفصيح المكانة الأولى، والصدارة العليا.

ولكننا في بلادنا فلسطين، لنا خصوصية ومبرر في توثيق هذا التراث , لأننا أمام عدو يلتهم الأرض، ويغتصب المقدسات، ويسرق التراث.

لم يكتف بسرقة الأرض والمقدسات وما ألحق بها من أساطير, بل نازعنا حتى في الثوب الفلسطيني ، لما للثوب من دلالات ترتبط بالأرض، وكذلك الفلافل تلك الأكلة الشعبية على بساطتها , وكأنه لا يريد أن يبقي لنا أثرا يربطنا بالأرض أو الماضي , ولا يسعنا كفلسطينيين والحالة كذلك، ونحن أمام هذا العدو المتغطرس الذي فتح جبهات متعددة ، وأشعل حروباً متنوعة، إلا أن نرمي في كل مجال، ونتمترس في كل خندق، لأننا مجتمعين أمام هدف واحد، ومتفرقين كل منا على ثغر من الثغور، والعار كل العار لمن يؤتي من قبله أو في مجال تخصصه.

وتعتبر الأمثال في كثير من المواضع امتدادا للقيم الإسلامية والموروث العظيم , مما يعكس تأثر النفوس بديننا وصياغة أمثال انطلاقا من وعيها العميق لمدلولاته , إلا أنها لا تخلو من بعض الشطحات التي قد تتعارض مع الدين الحنفي , ونحن لا نسبغ عليها ثوب القداسة , فهي على كل حال انعكاس لعادات الشعوب وتقاليدهم , ولا عجب إن حملت في  تضاعيفها صورا مختلفة وربما كانت متناقضة أيضا , فالكتاب مرآة تعكس واقعا ينقل بأمانة وصدق .

استمرارا لذلك الجهد، وانتماء لهذه الأرض الطيبة ، وفي هذا الجو الملبد بالتحديات والظروف الاقتصادية الصعبة ، يطل علينا الباحث الكريم الأستاذ عرفان أبو هويشل، متسلحاً بالعزم والإصرار ليضع بين أيدينا كتابه الرائع "  الأمثال والأقوال السارة لبدو النقب وسيناء "  وقد اختار مجال الدراسة، وحدودها في جنوب فلسطين وسيناء، باعتبارها وحدة جغرافية واحدة، متجانسة إلى حد كبير.

ومن الطبيعي أن يكون العنوان بهذه الصورة , لأن سكان تلك المنطقة هم من البدو، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فيه إعطاء لتلك الشريحة من السكان خصوصية هي حق لها، بعدما ذوبها البعض في بحر التراث الفلسطيني العام، حتى التهمت حيتان البحر تلك الأسماك على كثرتها، وأوشكت على إنهائها، وتعتبر أصول الباحث البدوية إيجابية وسببا في نجاح هذا العمل، لأن مدلول بعض الكلمات الواردة في الأمثال وفهم روحها لا يقدر عليه إلا بدوي متمرس أمسك بطرفي الموضوع الشعبي والعلمي , كيف لا والباحث، حاصل على دراسات في العلوم السياسية ومارس التدريس وعمل في مجالات متعددة , وكتب القصة , كل ذلك مكنه من الإطلاع والبحث في هذا المجال، وإن كان هذا الكتاب قد تضمن أمثالا بدوية , فلا أزعم ويشاركني الباحث نفسه أنه قد أحاط بكل الأمثال في هذا المجال , فهو أمر مستحيل , ولقد لمست مقدار الجهد الذي بذله الباحث والعناء الذي تكبده في سبيل جمع مادة الكتاب , وطرق أبواب العارفين من الشيوخ لمعرفة الأمثال ومعانيها , وشاركته وجدانيا في ما تحمله في انتظار ما تجود به قريحة الشيخ بالمعنى , فمقابلة الرواة لا تتوفر فيها المعلومة في جلسة واحدة , وقد لا تكون المعلومة دفعة واحدة , وربما كان الحديث العابر شركا يصيد به الباحث مبتغاه دون تعمد أو قصد , جهد لا يعرفه ولا يقدره إلا من عرفه , وكما قال الشاعر : 

   لا يعرف الشوق إلا من يكابده        ولا الصبابة إلا من يعانيها 


 نعم لقد سلخ  الباحث من عمره سنوات طوال يجوب القطاع شمالاً وجنوباً، يسأل هذا ويستفسر من ذاك، حتى تجمع لديه مئات من الأمثال، هي حصيلة جهد دؤوب وعمل مضنِ، ولا عجب فقد عرفت المؤلف باحثاً يعمل بهدوء وينتج بصمت، خادماً لتراث آمن بأهميته، واقتنع بضرورة حفظه ودراسته، ولنسلط الضوء على هذا الكتاب نقول:" يأتي الكتاب كجزء من موسوعة خطط لها الباحث وأعدد مخطوطات لبعض الأجزاء منها، وآثر أن يكون كتاب الأمثال هو الجزء الأول كفاتحة طريق لهذا العمل الذي نرجو له أن يكتمل ويرى النور.


ونحن إذ نستعرض هذا العمل الفردي بفخر واعتزاز لنتذكر مقولة  دقيقة ووصفا صادقا للشاعر حافظ إبراهيم  , نعرضها بأسف شديد : أن العرب أفشلهم عملا على مستوى الجماعات وانجحهم على مستوى الأفراد.

وهي كلمة صحيحة فما أنتج على مستوى الأفراد كان أكثر وأفضل مما أنتج على مستوى المؤسسات  والجماعات , ولعل موسوعة بلادنا فلسطين لمصطفى مراد الدباغ خير دليل وأصدق شاهد، وقد سبقت الموسوعة الفلسطينية وإن كان لكل عمل خصوصيته، وظروفه.

شكلت الأمثال أداة بلاغية رائعة مثلها كمثل القصة والأسلوب التصويري في القرآن الكريم , قال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .

كما تضمن الأدب العربي في العصر الجاهلي وما بعده , اهتماما واضحا في تعاطي العرب مع الأمثال , التي غالبا ما تكون عفويه بلا تكلف , وتمثل ثمرة تجربة , ونتاج جهد , فينطلق المثل مختصرا معبرا حاملا سمات تصويرية رائعة , يجد صداها في النفس , وتتناقلها الألسن وتتوارثها الأمم باعتزاز , كما قال الشاعر :

  فقال كلمة أصبحت مثلا          وصار الجيل بعد الجيل يرويها 


فلا عجب أن يكون للمثل مساحة في تراث البدو , باعتبارهم ورثة البلاغة عن أسلافهم .

وهذا الجهد الذي بين يديك أيها القارئ الكريم , ومن خلال دراستنا له , وجدناه كالآتي :

1-   جاء العنوان واضحا (الأمثال والأقوال السارة لبدو النقب وسيناء معاني ودلالات)، وليست دراسة مقارنة، وإلا طالبنا بإثبات ما يشابهه من أمثال قديمة فصيحة وغيرها، فالعنوان الواضح الجلي يحدد مجال الدراسة وأبعادها.


2- في خطوة ذكية من الباحث، وتوفيراً من عناء القارئ، وضع منهجه في المقدمة ليكون عقد اتفاق بين الباحث والقارئ، حدد من خلاله خطوط البحث وأدواته وأبعاده، فظهرت شخصية الباحث واضحة جليلة، بعيداً عن ضبابية مرتبكة تحير القارئ، وتجعله يتخبط في جمله من الأسئلة والمطالب، وهو ما يفتقده كثير من الباحثين في دراساتهم , والباحث يشكر على مقدمته الضافية التي أراح بها واستراح  .


3- حق للباحث أن يفرد مجالا لدراسته، وهو حرٌ في ذلك ما دام يحدد أدواته التي تتناسب وذلك المجال , وإن كنا نؤيد الباحث فيما ذهب إليه، إنصافا لشريحة كبيرة ظلمت وذاب تراثها حتى كاد أن يتلاشى ,  واجتهادا منه في تسليط الضوء على تلك الأمثال وما تكتنزه من معاني عميقة، وأبعاد سامية.


4- أحسن الباحث بأن قام بتشكيل الأمثال حسب النطق، لنصل بنفس النص الأصلي، وهو ما عمد إليه العلامة روكس بن زائد العزيزي في موسوعته الشهيرة " معلمة التراث " وكثير من العارفين الثقاة .


   5- قام الباحث بتقسيم تلك الثروة من الأمثال إلى حقول ومجالات وإن أخذت أرقاما متسلسلة، أظهرت عدد الأمثال كثروة كبيرة في رصيد التراث الشعبي .


6- يحسب للباحث أن عمله المكون من 237 صفحة قد خلا من أخطاء نحوية أو مطبعية، إلا في موضع واحد أو أثنين ومنها : مثال الجيم المصرية لكلمات ( قام – قال – قبر) كتبت بنفس الشكل والصواب أن تكون ( جام – جال – جبر .. ص 15), مما يدل على دقة الباحث واهتمامه بخروج العمل على أفضل ما يكون .


7 – أشار الباحث إلى أن الأمثال البدوية وغيرها، لا تنطبق عليها القواعد النحوية، وهذا صحيح، فحتى المثل الفصيح كثيراً ما يخرج عن القاعدة. ومنها المثل القديم : " إن أباها وأبا أباها بلغا من المجد غايتاها ".


وقول معاوية بن أبي سفيان الذي ذهب مثلا: " مكره أخاك لا بطل".

لأن معنى المثل وأبعاده تجاوز النحو إلى غاية أسمى وأبعد، ولقد وجدت لها مبرراتها عند النحاة القدماء.

8- الباحث بدوي ولا يخفى ما في البداوة من فطنة وذكاء وفصاحة ظاهرة، وإذا كان البدو في الجزيرة هم أهل الفصاحة، وكان العرب يودعون أبناءهم عندهم ، تدريباً لألسنتهم على الفصاحة، وعقولهم على الذكاء وسلوكهم على الاستقامة، وأسلوبهم على البلاغة، وكان سيد هؤلاء هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم  الذي تربى في بني سعد وهو سيد الفصحاء والبلغاء، حتى مدحه شوقي بقوله :


 فما عرف البلاغة ذو بيان                إذا لم يتخذك  له كتابا


ولا عجب أن يكون البدو اليوم هم ورثة البدو الأوائل، في البلاغة والفصاحة والإيجاز، ومعرفة معاني اللغة وأوابدها وشوا ردها .

ذكر خير الدين التنوخي أنه في أواخر العهد التركي، تخفى في بادية سوريا في ديار نوري الشعلان شيخ الروله، فكان يسامر الشيخ ويسمعه شعراً، ومنه قصيدة عمرو بن كلثوم، التي طرب لها الشعلان طرباً شديداً، حتى قال التنوخي : أن الشعلان لم يسأله عن معنى كلمة واحدة، لأن الرجل كان ملماً بها، فاهماً لكلماتها ومعانيها.

ولم تزل البلاغة حتى يومنا هذا تسكن قلوب البدو، وتختال في كلامهم فصاحة تسحر السامعين وتأسرهم.

فالمثل البدوي القائل: " سيور العلم يجيبنه الواردات ".

هو الوريث الشرعي لمقولة طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهله               ويأتيك بالأخبار من لم تزود

أو قولهم : ( الناس بتبكي مع الذيب وبتحاحي مع الراعي )

هو وليد لقول ابن المقفع القديم : 

رأيت الناس خداعاً بجانبك خداع
تبيت مع الذيب وتبكي مع الراعي

أو قولهم: " كل غايب يعود إلا غايب اللحود".

فهو من بقايا موروث قول الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص :

وكل ذي غيبة يؤوب          وغائب الموت لا يؤوب

من هنا وجدنا الباحث يسرد مثلاً واحداً يحتمل معنيين، ويفسر كل معنى حسب الواقع الذي يضرب به، فاستطاع أن يصل إلى روح المثل متجاوزا كلماته القريبه , إلى معنى أبعد وأرحب .

وما نفع الباحث في هذا إلا أصوله البدوية، فضلاً عن أنها مكنته من التواصل مع الشيوخ والعارفين للأمثال في مظانها، والتفاعل معهم , إضافة إلى ثقافته وسعة إطلاعه .

وهذا الجهد الذي بين أيدينا كأي عمل بشري لا يخلو من بعض الهنات الهينات، لكنها تذوب  في زحمة عطاء متدفق , رائده خدمة تراثنا الأصيل ومنها :

-        تداخل بعض الأمثال، ولعل تشابه الحادثة في مجال ما مع مجال آخر يجعل الباحث مضطرا إلى تكرار المثل، مثلا المثل القائل: " اسأل عن الرفيق قبل الطريق، ذكر في الرفيق وتكرر في موضوع السفر".


-        هناك أمثال ذكرت بصور شتى، مما جعلها تبدو مكررة خاصة أن المعنى مشترك وواضح .


وربما كان من الخير لو أن الباحث ذكر صورة من المثل وشرحه، وألحق في هامش الصفحة المثل بصورته الأخرى , راجع على سبيل المثال ( ص 18، 25 وغيرها ) 

-         يحسب للباحث ما ختم بها الكتاب , باب تحليل الأمثال ومفردات البيئة البدوية من خلال الأمثال , متمنيا أن تكون تلك الصفحات مشروع عمل لقاموس المفردات البدوية , مع ذكر صورة كل كلمة عند كل قبيلة من قبائل بئر السبع لنحفظ تلك اللهجات الأصيلة , وقد أعد الدكتور عبد اللطيف البرغوثي رحمه الله قاموسه        (  القاموس العربي الشعبي الفلسطيني - اللهجة الفلسطينية الدارجة  ) بين فيه المفردات الفلسطينية , لتحفظ من الضياع أو النسيان .


وهي إضافة نوعية وموضوعية تأتي كاشفة لنواحي الحياة البدوية .

كما يسجل الباحث الأستاذ عرفان أبو هويشل بهذا الجهد إضافة مشكورة في هذا الصرح التراثي الشامخ، ليقف مع الرواد بجهده النوعي على قدم المساواة.

وبعد أن استمتعت بقراءة الكتاب وما تضمنه من أمثال جديدة و طريفة , أجد من الواجب أن أتقدم للأخ الباحث الكريم بشكرين :

الأول شكر وطني باسمنا كفلسطينيين لما أضاف من لبنة في هذا الصرح الوطني ليبقى منارة عالية , ليثأر من طوفان النسيان , وتغييب الذاكرة .

و الثاني :  شكر بدوي لما أسدى من يد بيضاء أسهمت في حفظ وإظهار تراث عزيز على نفوسنا ، و رسم صورة لهويتنا ستبقى محفورة في  سجل الخلود.

داعين له أن يمتعه الله بالصحة والعافية والقوة ليستكمل مشروعه التراثي ليرى النور قريبا .

اقرأ المحتوى الأصلي على دنيا الوطن http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/04/06/325685.html#ixzz2y8yzdAQD





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق