الخميس، 3 أبريل 2014


بياع الفتاوي

خفق قلبه عندما شعر بأن يده ترتجف .. حمد الله على أن ذلك لايحدث كثيراً, ولو أن نوبات الرجفة بدأت تتقارب .. عندما ذهب إلى الطبيب مؤخراً، أفهمه بأن ذلك من أعراض الشيخوخة، وبعد أن أعطاه بعض المهدئات، طلب منه الالتزام بالراحة التامة ..
جلس على مكتبه في البيت .. نظره هذه الأيام لا يساعده على القراءة إلا تحت ضوء قوي .. تذكر أيام كان يقرأ على ضوء القمر عندما كان طالباً صغيراً في قريتهم البعيدة .. خفق قلبه ثانية.                                                                                                                              قال لنفسه:
ـ منذ عُيّنت في وظيفة "المفتى" بدأت ظواهر الشيخوخة تغزوني بشكل سريع .. قبل ذلك كانت حالتي الصحية أحسن بكثير.
نظر إلى المكتب الفخم والفراش الوثير ثم مد بصره عبر زجاج النافذة فشاهد حديقة المنزل .. تمتم في نفسه:
ـ لقد كان الثمن غالياً ..
 كان عليه أن يُصدر فتوى ـ حسب طلب الرئاسة ـ بخصوص الأحداث الأخيرة والجماعة القائمة على تنظيم المظاهرات .. مد بصره نحو مكتبته الخاصة والتي كانت تغطي جانبين من الغرفة الواسعة .. كل كتب التفسير، وكل كتب الفقه والحديث كانت مرصوصة على الأرفف الأنيقة.
ألقى بظهره إلى مسند الكرسي وتمتم:
ـ كل هذه الكتب – رغم كثرتها–  لن تسعفني في موضوعي!
أغمض عينيه للحظة وطلب كوباً من الشاي، وبعد أن شربه فتح أحد أدراج مكتبه، وأخرج منها عدة كتب، كانت تحمل العناوين التالية:
*جامع الأركان في فتاوى السلطان.
*الحاوي في الحيل.
*الكنز الدفين في حيل الأولين والآخرين.
*التنوير في فن التحوير.
بدأ يتصفح هذه الكتب ويدون الملاحظات، وعندما كان يشعر بالرجفة في يده كان يستريح برهة ليتناول كوباً من الشاي بالنعناع، ثم يعود لكتابة حيثيات الفتوى المطلوبة.
عندما اقترب من النهاية، دخلت عليه زوجته .. كانت جيوش الشيخوخة قد بدأت تغزوها هي الأخرى، فرغم أنه يكبرها بعشر سنوات إلا إنه يبدو أكثر شباباً منها .. قال لنفسه:
ـ مسكينة، لقد أنجبت تسعة أبناء وبنات؛ أنجبوا حتى الآن عشرات الأحفاد والحفيدات.
فتحت الزوجة موضوع ابنهم الأصغر، وضرورة البحث له عن وظيفة وزوجة .. طمأنها بالنسبة للوظيفة قائلا بأنه سيستخدم نفوذه وصلاته مع كبار القوم لإيجاد وظيفة مناسبة .. ثم أردف ضاحكاً:
ـ وأما بالنسبة للزوجة فهذا من اختصاصك.
قال ذلك، وفتح أحد المجلدات، وكان هذا يعني انتهاء المناقشة، فغادرت الحجرة وهي تتمتم بما لم يفهمه.
قبل نشرة أخبار منتصف الليل، كان قد كتب فتواه والتي نصت على التالي:
"بما أن المظاهرات تمثل خلخلة لأركان النظام القائم وتشكك في أهلية ولاة الأمور الشرعيين، وتمثل نكثاً للبيعة، فإن من ينظم هذه المظاهرات أو يشارك فيها أو يؤيدها هو خارج عن الجماعة، حلال الدم والمال".
وبعد أن راجع فتواه من الناحية  اللغوية والإملائية، واطمأن إلى سلامتها، وضعها  تحت الوسادة لتسليمها في الغد.
فتح درج مكتبه وأخرج دفترين صغيرين كان عنوان الأول هو "الجن المحبوس في تنمية الفلوس" والثاني عنوانه "جامع الأصول في جني المحصول" ..
قام ببعض الحسابات الخاصة بأرصدته المالية، ثم تناول مخطوطاً معنوناً بالتالي "الحاوي في الفتاوى"، وخط فيه فتواه الجديدة، وتثاءب ثم نام.
*****
عاد المفتي في اليوم التالي مسروراً منشرح الصدر، يكاد يقفز من شدة الفرح، فقد قبض ثمن فتواه، بالإضافة إلي نجاحه في تدبير وظيفة مناسبة لابنه. وعندما زف الخبر لزوجته، فرحت كثيراً خاصة وأن هذا الابن كان "آخر العنقود".
غير ملابسه ونام.. صحا على حلم مزعج لم يخبر به زوجته، ولكن آثاره بدت في شكل تقطيبه مريعة بين عينيه .. قال لنفسه:
ـ اللهم اجعله خيراً.
في المساء كان ـ كالعادة ـ يجلس مع الأسرة في الصالة لمشاهدة أخبار التاسعة في "التلفاز" وغالباً ما يكون هناك ضيوف .. إحدى بناته وزوجها، أو أحد المعارف أو الجيران.
شّد انتباهه صوت المذيع يقول:
ألقت قوات الأمن القبض على تسعة عشر من مثيري الفتنة خلال مظاهرة جرت اليوم أمام القصر، وصرح وزير الداخلية بأنه سيتم تنفيذ الحكم الشرعي فيهم حسب فتوى فضيلة المفتي العام..
تمتم في نفسه:
ـ بهذه السرعة ؟! .. لو كنت أعلم بأن هذه الفتوى تهمهم إلى هذه الدرجة، لطلبت ثمناً أعلى .. شعر بأنه غُبن فخفق قلبه خفقة قوية.
صرخ حفيده قائلاً:
ـ انظر يا جدي! هاهو خالي في "التلفزيون" !
نظر الجميع نحو الشاشة .. يا للهول! كان أحد أبنائه يجلس في القفص مع المتهمين .. خفق قلبه خفقة شديدة .. ارتمى فوق "الكنبة" فترك الجميع مشاهدة التلفاز وأحاطوا به .. اتصلوا بالطبيب الذي جاء مسرعاً، وبعد الفحص قال بأنها بداية نوبة قلبية، وأن على المفتى أن يهتم بصحته ويريح نفسه .. وبعد أن كتب له بعض الأدوية أوصاه بالراحة التامة.
ولكن كيف يمكن أن يرتاح وابنه مع المتهمين، والعقاب الصارم ينتظره، ورغم ما به من ألم فقد قرر مقابلة وزير الداخلية.
*****
ابتدره وزير الداخلية قائلاً:
ـ أهلاً بسماحة مفتينا الأكبر .. إن كل المسئولين يشكرونك على فتواك الأخيرة حيث أنها ستساهم في استتباب الأمن في ربوع البلاد..
حاول المفتى مقاطعته قائلاً :
ـ ولكن ..
استمر الوزير قائلاً:
ـ إذا كنت ترغب في مكافأة أكبر فنحن على أتم الاستعداد .. إن عندنا بنود سرية تسمح بذلك .. المهم أن تكون مبسوطاً يا شيخنا ..
ـ القصة ليست موضوع مكافآت ..
ـ ماذا تريد إذاً .. نحن جاهزون.
تلعثم المفتى وجف ريقه .. خرج الصوت متحشرجاً:
ـ ابني.
ـ ابنك ؟! لقد تمت إجراءات تعيينه حسب الاتفاق.
ـ ابني الآخر.
ـ ماله؟
ـ إنه مسجون لديكم.
ـ مسجون ! .. وبأي تهمة ؟
ـ مسجون في حكاية المظاهرات ..
تصنع الوزير الأسى وقال:
ـ لقد سبق السيف العذل يا فضيلة المفتي.
ـ ما معنى ذلك؟!
ـ لقد تم الحكم على تلك العصابة المارقة، كما تم تنفيذ حكم الشرع فيهم .. لقد أعُدموا.
ـ وابني؟!
ـ إنه ليس من أهلك .. ألم يكن عدواً للقصر؟
ـ ولكن هذا الحكم قاسٍ وبشع وظالم!
ضحك الوزير ضحكة صفراء وقال:
ـ لقد تم الأمر بناءً على فتوى سيادة المفتي العام .. أم هل تراك نسيت؟ لقد قدر الزعيم جهودك وأمر لك بصرف مكافأة أخرى.

كان آخر ما رآه المفتي ضحكة الوزير الصفراء .. بعدها اختلطت الرؤى لديه .. قريتهم البعيدة .. زوجته .. بيته .. ناراً تشتعل .. يتغير لونها .. تزداد اشتعالاً .. تحاصره .. الكل يتفرج عليه ويضحك .. صاحب القصر والوزراء .. زوجته وأحفاده .. وبدأ يغوص في هوة سحيقة .. يحاول الصراخ .. فلا يستطيع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق