الاثنين، 10 فبراير 2014


خلف الحدود
 كانت إشارة التحرك للركب الكامن غرب الحدود هي صوت المؤذن لصلاة العشاء .. فور سماعهم صوت المؤذن ينطلق من حي "الشجاعية"، قام الرجال فصلوا بسرعة، بينما كانت أربع أو خمس نسوة يجلسن جانباً، رغم أنه كان من الصعوبة تمييزهن عن الرجال في عتمة ليل الشتاء.تفقدوا بعضهم البعض، وانطلق الدليل أمامهم نحو الشرق، بعد أن عبروا الحدود من أحد شعاب الوديان المنتشرة في تلك المنطقة .. كان الركب سريعاً خفيف الحركة، كيف لا وهم لابد أن يصلوا الحدود الأخرى قبل طلوع الفجر .. كانوا يحملون بعض الطعام والقليل من الماء، وأملاً كبيراً بأن يصلوا قبل طلوع الشمس .. وعند الوصول ستتحقق الآمال القابعة في صدر كل واحد منهم.من بين هذا الجمع اللاهث نحو الشرق، كان غانم وأخته نعمة .. تحسس غانم رسالة عمه واطمأن عندما وجدها في مكانها في الجيب الداخلي لسترته .. تذكر أمه التي توفت قبل ستة أشهر، تاركة إياه وأخته وحيدين، حيث استشهد والدهما وهو يدافع عن القرية سنة ثمان وأربعين ..بعد ذلك رحلت الأم مع إخوتها غرباً إلى غزة بينما رحل العم شرقاً، تحسس الخطاب مرة ثانية، تذكر عمه "أبي عامر" وكيف أنه أرسل إليهم هذا الخطاب يطلب منهم فيه اللحاق به كي يعيشوا في كنفه ولمّح إلى أنه يطلب يد نعمة لابن عمها عامر.عند ذلك كان الركب قد قطع مسافة لا بأس بها، والدليل يقوده عبر الطريق .. هبطوا وادياً .. انقبض قلبه .. لا يعرف لماذا ! أحس بالخوف لأول مرة .. أمسك بيد أخته .. شد عليها ليشجعها .. نظرت إليه وابتسمت .. كان عليهم أن يصعدوا الحافة الأخرى للوادي، الدليل صعد أمامهم والباقون لا زالوا في قاع الوادي .. فجأة .. يا الله .. ما هذا ؟! .. رصاص كأنه المطر انهمر عليهم من الجانبين .. صوت الرصاص يشل تفكير أقوي الرجال، لأنه يقترن بالموت .. فما بال النساء!!بجانب صوت الرصاص، ارتفع الصراخ من المصابين والخائفين .. في مثل تلك اللحظات الحرجة يهتم كل إنسان بنجاة نفسه وينسى الآخرين، لكن غانم ظل متشبثاً بيد أخته ..جرى بجانب الوادي .. جرت معه لعدة خطوات ثم وقعت على الأرض .. انحنى يستحثها على المسير، لكنها كانت تئن أنيناً خافتاً .. مد يده ليحملها .. أحس بلزوجة الدم .. إذاً لقد أصيبت .. حملها وجرى بها حتى ابتعد عن مكان الخطر .. أنزلها .. لا تزال تئن .. كانت مصابة في الكتف والجرح ينزف .. "يا إلهي ما العمل"كان الجرح واضحاً، له فتحتان، فتحة من جهة الصدر، والأخرى من جهة الظهر ..
حاول ربط الجرح .. حاول أن يكلمها، ولكنها لا تزال تئن أنيناً خافتاً ..
فكر بأنه لابد من الابتعاد عن هذا المكان قدر المستطاع، حيث خطر الدوريات اليهودية لا يزال محدقاً .. حمل أخته ثانية وسار بجانب الوادي .. بعد فترة وجد أحد الشعاب الضيقة، وكان التعب قد اخذ منه كل مأخذ .. أنزل أخته .. سّوى لها مكاناً وأرقدها فيه ثم غطاها بسترته .. حاول أن يكلمها، ولكنها لا تزال تئن .. أشارت إليه أشارة فهم منها أنها تريد ماءً .."ولكن من أين الماء يا نعمة .. الرصاص دون الماء، فلتصبري يا أختاه فما باليد حيلة" ..ورويداً رويداً زال هول المفاجأة المريعة، وبدأ غانم يفكر في كيفية الخروج من هذا المأزق .. قطع عليه حبل أفكاره دخول ضوء الصباح إلى حيث يقبعان في الشعب."النهار طلع" إذاً لا حركة وإلا فالموت الزؤام .. لابد من الكمون حتى حلول ليل جديد .. نظر إلى أخته .. كانت لا تزال تئن ابتسم لها .. لمح شبح ابتسامة على شفتيها .. شجعها قائلاً:ـ الآن طلع النهار .. عندما يحل الليل سنجد حلاً بإذن الله، ونتابع طريقنا.قال لها ذلك، وهو نفسه لا يعرف كيف سيحل هذه المشكلة .. أخته لا تزال تطلب الماء .. أفهمها بأنه لا يمكن الحصول على ماء إلا بالليل، فالخروج نهاراً يعنى الموت .. أغمضت عينيها دليل الموافقة وهي لا تزال تئن ..قلّب غانم الأمور، وأجهد عقله في التفكير لإنقاذ أخته المصابة .. قر قراره على أن يعود عندما يحل المساء، ويكمن قرب الطريق عسى أن يجد أناساً يساعدونه في حمل أخته ومتابعة السير نحو الشرق.***** هاجر"أبو عامر" إلى الشرق واستقر في قرية قرب الخليل حيث سكن عند صديق قديم له .. كان يفكر دائماً في أسرة أخيه المتوفى وكان يتابع أخبارهم عن طريق المسافرين .. بعث إليهم ببعض النقود ولكنه كان يرغب في إحضارهم عنده ليطمئن عليهم .. علم بموت زوجة أخيه ولذلك قرر أن يبعث لابن أخيه وأخته ليحضروا ويعيشوا معه وفكر في تزويج "نعمة" ابنة أخيه لابنه "عامر" ولذلك أرسل لغانم رسالة يحثه فيها على المجيء.ولظروف خارجة عن الإرادة تأخر غانم عن الحضور .. فكر أبو عامر بأنه لابد من سبب منع ابن أخيه وأخته من الحضور، وسارت به الأفكار كل مسار وتوقع أن يكون قد حدث لهما مكروه، ولذلك تشاور مع ابنه عامر وقر قرارهما على أن يسافر عامر إلى غزة لإحضار ابن وابنة عمه..قرب قرية"الظاهرية" كمن عامر مع الركب المتجه غرباً، وانتظروا حتى أذن المؤذن آذان العشاء وعبروا الحدود متجهين غرباً يقودهم الدليل.***** بعد أن خيم الظلام ودع غانم أخته، وأفهمها بأنه سيذهب إلى الطريق عسى أن يجد من يساعدهم أو على الأقل يجد لها ماءً .. شجعها ببسمة فردت عليه ببسمة تنم عما بجسدها من ضعف وإرهاق ..سار على نفس الطريق الذي قطعه الليلة الماضية حتى وصل إلى قرب الموقع الذي أصيب الركب فيه برصاص اليهود .. كمن بجانب الطريق .. أرهف سمعه .. حدق عبر الظلام جيداً اعتقد أنه لا يوجد أي كمين معادي .. اقترب من الطريق أكثر وكمن ينتظر مرور مسافرين .. انتظر .. ثم انتظر حتى مضى أكثر من ثلثي الليل وكاد اليأس يحطم أعصابه، ولكنه أخيراً سمع أصوات منخفضة، كان القوم يتحدثون يا لفرحته .. أنهم يتحدثون العربية .. إذاً هم مثله يريدون عبور الحدود، ولكن من الجهة المعاكسة .. كانوا يتجهون غرباً ..عندما اقتربوا منه تنحنح .. أجفل القوم .."يا أهل الله" قالها ليُطمئن القوم بأنه عربي مثلهم .. اطمئن القوم وقفوا .. تقدم إليهم .. قال وهو يغالب عبره خنقت صوته:ـ إنني في حاجة إلى المساعدة أيها الأخوة .. في أشد الحاجة.قالوا بصوت واحد:ـ خيراً إن شاء الله .. ما الأمر؟قال وقد خنقته العبرات:ـ في الليلة الماضية كنا نمر من هنا نريد عبور الوادي نحو الشرق وإذ بكمين يهودي يصلينا ناراً ورصاصاً وقتل من قتل وأصيب من أصيب وهرب من هرب ..ـ ولكننا نراك بخير والحمد لله ..الموضوع ليس أنا .. إنها أختي، لقد أصيبت بالأمس  بجرح خطير ولقد نقلتها بعيداً عن هذا المكان، وأنا بحاجة لمن يساعدني في نقلها عبر الحدود ..صمت القوم ..فجأة تقدم أحدهم قائلاً:ـ الصوت ليس غريباً على .. من أنت؟ـ أنا غانم الراعي .. ولقد كنت أريد الذهاب إلى عمي ..هجم عليه واحتضنه صارخاً:ـ أنت غانم .. أنت ابن عمي .. أنا عامر .. لقد كنت ذاهباً إليكم لإحضاركم.تنفس القوم الصعداء لأنهم وجدوا مخرجاً من الإحراج .. وقال أحدهم:ـ ما دمتم أبناء عم فتستطيعان أن تنقلوا المصابة .. هيا اذهبا ونحن سنذهب لمواصلة السير فالليل أبو ساتر, فهيا على بركة الله قبل طلوع النهار .. قالوا ذلك وساروا.فجأة تذكر غانم الماء .. طلب منهم بعض الماء أعطوه وسار هو وابن عمه حثيثاً نحو أخته .. وصلا إليها كانت لا تزال تئن وتهذي:ـ "أترى يا عامر الفراشة على النوارة الصفراء .. أمي اسقيني ماء .. إنني عطشى .. الرصاص يا غانم .. الرصاص .. اهرب"بكى غانم وبكى عامر .. اقترب غانم من أخته وصب بعض الماء في فمها .. صحت .. فتحت عينيها .. نظرت باستغراب إلى عامر ثم كأنها تتذكر شيئا .. فجأة حاولت النهوض، ولكن قواها خانتها فلم تستطع .. سقطت دمعتان من عينيها .. حاولت أن تبتسم .. اقترب منها ابن عمها .. أمسك بيدها .. ابتسمت .. نطقت لأول مرة ولكن بصوت ضعيف:ـ تشجع يا ابن عمي .. هي المقادير.. كنت أحلم بأن أصبح زوجة لك، ولكن سامحني .. لن أستطيع .. سأموت ..بكى عامر وقال لها:ـ لا تقولي ذلك يا ابنة العم .. سنأخذك معنا وستشفين وسنتزوجـ أنا أدرى بنفسي .. عما قريب سأموت .. لا تحزنا فهذا قدري سألحق بأبي وأمي .. لن أكون وحيدة .. اهتما بنفسيكما وتذكراني تحياتي إلى عمي ..كانت تحاول جاهدة استخراج شيء ما من ثوبها .. كانت قواها قد خانتها .. أخرجته أخيراً .. ناولته لغانم وتمتمت:ـ خذ هذا عقد أهدته لي أمي .. خذه هدية لزوجتك .. قالت ذلك بينما كانت بقايا بسمة ترف على شفتيها.

من مجموعة "الخبز والدم"
    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق