مخاض الخروج من الوادي
(للكاتب/ عرفان حمد أبوهويشل)
آخر
صخرة .. تشبث بها وصعد إلي القمة .. كان الصعود قد استنفذ كل قواه .. جلس علي
القمة يعب الهواء عباً .. كان هواء مختلفاً .. لم يكن هواءً بل كان عبقاً لروائح كل
الأزهار .. كلما استنشق كمية أكبر كلما ازداد خدراً .. كان كالجنين عندما يخترق
حاجز المخاض .. لكنه لم يستهل صارخاً .. بل بسمة غطت وجهه وروحه .. كم قاسي حتى
وصل إلي هذا المكان, وكانت الجائزة الكبرى عبق الأزهار يملأ صدره والخدر يملأ رأسه.
بعدما
عب ما شاء الله له أن يرتوي .. اعتدل في جلسته ونظر إلي الأسفل .. رأى الوادي
فانقبض صدره وزال الخدر .. دقق النظر .. كان الناس يسيرون في الوادي كالأقزام .. تذكر
كُهان الوادي وكم طاف حول أصنامهم .. كم هتف بحياتهم .. كم مات من أجلهم .. كاهن
يخلفه كاهن وهو مع الآخرين يطوف حولهم .. حفظ تفاصيل الوادي شبراً شبراً, فلم يكن
يعرف من الدنيا سواه .. حفظ مقولات الكاهن عن ظهر قلب, فهو لم يسمع غيرها, كم أكل هو
والآخرون من فتات مائدة الكاهن .. كان الكاهن يطوف وهم يطوفون حوله, سئم الطواف ولكن
الكاهن لم يسئم, وظلت الرحى تدور يسمع هديرها من يسمع ويموت تحتها من ترميه
المقادير .. كم مرة طحنته الرحى فتشظى أشلاءً .. ولكنه كان يلم أشلاءه وينهض ..
أخيرا قرر الخروج من الوادي, وكان قرارٌ صعبٌ وغير مسبوق.
نظر
إلى الأسفل مرة ثانية .. لعجبه كانت هناك وديان أخرى كثيرة في الأسفل, كان لا يعرف
عنها شيئا قبل ذلك, شكلها العام لا يختلف عن واديه .. وكان الناس فيها يطوفون كالأقزام
.. سأل نفسه:
ـ
هل في الوديان الأخرى كهنة آخرون؟
دقق
النظر, كان الأقزام يطوفون في كل وادي حول رجل طويل .. تذكر كاهن واديه .. تأكد
بأنه لكل وادٍ كاهن .. تذكر بمرارة تعاليم الكاهن؛ لا تلتفت .. لا تسأل .. لا
تناقش.. لا تعترض .. وإياك إياك والخروج من الوادي فتلك جريمة كبرى قد يكون جزاؤها
الموت شنقا أو علي الخازوق.
حفظ
تعاليم الكاهن كلمة كلمة وحرفاً حرفاً .. تشربها .. كان يفكر من خلال الكاهن
ويتكلم بلسان الكاهن, لقد أحب الكاهن حباً جماً ملك عليه شغاف قلبه, ولكنه
بالتدريج بدأ يكتشف بأن الكاهن كان يخدعهم؛ فقد كان لا يطبق التعاليم التي يلقيها
إلي مريديه .. كان يقول شيئا ويتصرف بنحو مخالف .. ولكن المريدين في طوافهم
المحموم حوله لم يكونوا ينتبهون لذلك التناقض .. أما هو فقد فتح الله عليه وبدأ
ينظر إلي الكاهن نظرة مختلفة, بدأ يقارن بين ما يقوله لمريديه وبين ما يفعله في
حياته الخاصة .. وجد فارقاً كبيراً وتناقضاً فاضحاً .. اتضحت الفكرة تماماً .. لقد
كان الكاهن يخدع مريديه.
قرر
ترك الوادي والصعود نحو القمة. كانت رحلة الصعود شاقة .. فلم يكن من السهل الانطلاق
من جاذبية الوادي .. كان المخاض عسيراً ثم كانت الولادة .. واستنشق الهواء في
القمة .. واستهل مبتسماً .. نظر للأسفل كانت كل الوديان تحته والناس فيها أقزاما
يطوفون حول كهنتهم .. شعر بالتفوق وكان عبق أزهار الدنيا يملأ صدره.